12‏/06‏/2008

سلطة القراءة في النقد التفكيكي





يُلِّحُ جاك دريدا المؤسس الأول للتفكيكية على أنها ليست منهجاً أو تقنيةً أو طريقاً من طُرُقِ النَّقْدِ , ولعلَّ هذا يكشِفُ عن عبثيةٍ , وتخَبُّطٍ هذا المنهج , أو هذه الطريقة في القراءة , التي وإن التزمت عدمَ التمنْهُجِ إلاَّ أنَّها تعد طريقة مبتكرة في القراءة حظيَتْ باهتمامِ النقد الغربي مداً من الزمن , لما تضمنتهُ رُبَّما من قفزاتٍ في الرؤية والتصوراتِ التي انطلقت منها , أو لأنها آلت على نفسها أن تكونَ مِزقاً متغيرة وغير مستقرة , فسعى الآخرون لترقيعها , أو رميها في سلة مهملات لما رأوه من بشاعة أحدثتها في سير النقد الغربي .

ربما لم تتأسّس التفكيكيةُ كمنْهَجٍ نقديٍّ لخدمة النَّصِ الأدبي , أو خلقِ أنموذجٍ جديدٍ للقراءة , بقدرِ ما كانت سعياً فكرياً لتقويضِ جميعِ الموروثات الفكرية والفلسفية والدينية والسياسية التي ظلت آسِرَةً لِلْفِكْرِ الغربي زمن العصورِ المظلمة كما يحلو لهم تسميتها , وإحالةِ أفكارٍ جديدة مبتورة عن كل ماهو تراثيٌّ ميتافيزيقي مركزيٌّ في الرؤية الموروثة التي حصرت الفكر الغربي في دائرة مغلقة , ولم تمنحه الفرصة ليتحرر .

ومن هنا اتَّبَعَ التفكيكيُّونَ في تطبيقاتِهِمُ القِرائيِّةِ على النصُّوْصِ الأدبيِّةِ التقويضَ للمدلولاتِ الوراثيِّة المتمركزةَ في التفسيرات والقراءات النقدية السائدة , وطالبوا بقتلِ المؤلِّفِ ( المدلول ) وتكفينهِ في غياهِبِ اللاحضور , ومركزةِ الدَّالِّ , تحتَ سُلْطَةِ القارئِ الذي يرِثُ النَّصَّ عن مُؤلِّفِهِ ليقومَ بِتَفْكِيْكِهِ وتقويْضهِ وإعادةِ كتابتهِ من جديد .

لذلك " يرى رولان بارت - أحدُ نقادِ التفكيكية الأكثرِ جدلاً – أنَّ النَّقْدَ " كِتابةٌ على كِتابة – أو نَصَّاً جديداً يُضافُ إلى النَّصِّ الأصلي , فالقارئُ وفقاً لبارت يُعَدُّ منتِجاً لامُستهْلِكاً صاحِبَ إضافةٍ , وليسَ مُجَرَّدَ عالةٍ على النَّصِّ " .1

هذِهِ السُّلْطة تعطي القارئ الحقَّ في تحقيق المعنى الذي يريد , وفقاً لتصوراته المبتورة عن كل ماهو ميتافيزقيٌّ نمطي ..!!



هذا يعني لانهائيةً في المدلول والمعنى , فليسَ ثمة قراءة صحيحة أو خاطئة , بل هناكَ سِلسلة لانهاية لها من القراءات , فكل قراءة تولد قراءة أخرى جديدة إلى مالانهاية , في تفسيراتٍ مختلفة أو متناقضة . 2

يقولُ جاك دريدا :3 " لن تكونَ الكِتابةُ أبداً ذلكَ الرَّسْمَ البسيطَ للصوتِ , إنها تخلِقُ المعنى بصياغتِها إيَّاه , بإيداعِهِ في نقْشٍ , في ثَلْمٍ , في بروزٍ , في سَطْحٍ نُرِيدُ أن يكونَ قابِلاً للإيصَالِ إلى مالانهاية له " .

إنَّ دريدا يرى أنَّ أيَّ نَصٍّ غيرُ تامٍّ , وغيرُ مُكْتَفٍ بِذاتِهِ " فليس ثمّة بنيةٌ أو ظاهرةٌ مكتفيةٌ بذاتها، بل أنّها دائماً تحتاج إلى تتمّةٍ أو مكمّلٍ أو إضافةٍ، وعلى هذا الأساس لا يُمكن الحديث عن الكمال في الشّيء، وبالتّالي لا يكون دور المكمّل ثانويّاً. وكأنّ عدم الكمال هي الضّمانة الوحيدة للبقاء، لأنّ الأشياء إذا اكتملت ماتت. " .

فالنص تُكمِلُهُ القراءات المتعددة التي لاتؤدي دوراً ثانوياً , بل رئيساً في العمل التفكيكي , ومادامَ الأمرُ كذلك فليسَ ثمَةَ بؤرة مركزية يتمحورُ حولها المعنى , وإنما هناك اندياحٌ ولعبٌ بالدَّوال , وإرجاءٌ ممتدٌّ بلا نهايةٍ للدال إلى مدلولاتٍ مختلفة باختلافِ القراءة , لاتنتهي ولاتتوقف ولاتستقر عند معنىً ثابت إلزامي .

إن دريدا يرفضُ الفكرة الغربية التي تُمجِّدُ الصوتَ على الكِتابة , أو الحضورَ على الغياب باعتبار " أن الكلام نسَقٌ وسيطٌ تتلاشى دواله حالَ نطقِها , ومن ثم لاتتخذ الدوالُّ شكلاً ملموساً , وبقدرةِ المتكلم إزالة أية التباسات قد تطرأ ليضمن أن أفكاره قد تم نقلها , أما في الكتابة فلا تتلاشى الهيئات الوسيطة إذ تبقى الدوال , لأنَّ الكتابة تُقَدِّمُ اللغة في سلسلة من الإشارات المادية التي تمارس عملها في غياب المتكلم , وفي الأشكال البلاغية التي تتمتع بفنية عالية تتسم هذه الإشارات بدرجة عالية من الغموض والتشابك " . 4

دريدا لا يرفض هذا الغموض , وذاك التشابك , بل يطلبه في نقده التفكيكي لأن الكتابة تجعلُ أفكار الكاتب أكثر تعرضاً للفحص والعناية , كما أنها تفضح الكاتب , وتُفْصِحُ عن مَكْبُوْتِهِ دون أن يشعر , لذلك جعل دريدا لها القدحَ المُعلَّى , وقلب المعادلة لتستحوذ على مرتبة الصوت , وتصير هي الأساسُ , وبهذا يغيبُ الصوت , صوتُ المؤلف" لتعلن التفكيكية سلطة القراءة , وبالتالي تعلن ميلاد القارئ , ويُشَيَّعُ المؤلف ( الصوت ) في جنازة متواضعة ".5

لقد رفضَ جاك دريدا ميتافيزيقا الحضور , وتبنى بحماسة مبدأ الإرجاء , وتحول اللغة إلى مجرد دوال أخرى لايمكن معها تثبيت دلالة معينة , ولهذا أعطى الأفضلية للكتابة على الكلام.

إنَّ تغييبَ دريدا ومُمَنْهِجي التفكيك بعدَهُ لسُلْطَةِ المَدْلُوْلِ , تجُرُّ معها تغييباً للثوابتِ اللغوية , التي يعُدُّها التفكيكيون أثراً من آثارِ الصرامة النقدية ..!!

يقول ريتشارد رورتي :6 " الدور المهم المفيد الذي تلعبه النزعة التفكيكية في الدراسات الأدبية , ذلك الدور الذي يسهم في تحريرنا من فكرة " تفسير النص تفسيراً صحيحاً – تفسير يمليه النص نفسه " كما يحررنا من الفكرة المثالية التي تنادي بضرورة وضع النقد الأدبي على طريقٍ آمن هو طريق العلم بتبني بعض الأفكار المثلى عن الصحة والسواء " .

هذهِ الغيابية للقوانين اللغوية , تُوَسِّعُ من لانهائية القراءة التي تقوم عليها التفكيكية , إذ تعتبرُ تاريخ أي علامة أمراً مجهولاً , فيغدو النص كائناً متعالياً على التاريخ الرسمي , إنه تعددي ولانهائي , دالٌّ يتمتَعُ بخاصِيَّةِ الانزلاقِ في مَجَرَّةِ المَدْلُوْلاتِ . 7

إن القراءة التفكيكية التي سماها نيتشه ( الهدم ) تقومُ على التقويض والهدم لكل ماهو ثابت , وقلب المعادلات والثنائيات , والتَّحَرُّكُ نحو المناطِقِ المسكوتِ عنها , والتي لايلتفت إليها النقاد عادة , أو مايعتبرونها تفاصيل تافهة ,ليكشفَ كما يدَّعِيْ أولوه أنها مُشَوَّشةٌ وذاتُ أثَرٍ أو دالٍّ في النصِّ .

يقول كريستوفر نوريس : 8" التفكيك تفتيش عن (السقطاتِ) أو نُقَاطِ العَمَى , أو لحظاتِ التَّنَاقُضِ الذاتيِّ حيثُمَا يَفْضَحُ النَّصُّ لاإرادياً التوتر بين بلاغته ومنطقه , بين مايقصد قوله ظاهرياً ومايُكرهُ على أن يَعْنِيْهِ رُغْمَاً عَنْهُ " .

هذهِ المنهجية في القراءة , لاتُغَيِّبُ التأثر (الجاك دريدري) بالمدرسة الفرويدية التي تبحثًُ عن أدقِّ الدوالِّ في النَّصِّ للوصولِ إلى خبيئةٍ نفسية تدخل منها إلى الكشف عن الشخصية المبدعة.

على أن الغرض الفرويدي كشف نفسي , أما الغرضُ التفكيكي فهو بحثٌ عن لانهائيٌةِ القراءة , وفتح النص أمام تعددية قرائيةٍ لاتُغْلِقُ مدلولهُ بل تجعلُهُ مُشرعاً , حتى وإن اضطرت إلى تقويض مداخله حتى تضمن عدمَ انغلاقِ القراءة , والعودةَ إلى ( تراتبية ) أقامَ دريدا بحوثَهُ التفكيكية لقلبها وتقويض سُلْطِتِها .

هذا وقبل الختمِ نُجْمِلُ ملامِحَ القِراءةِ التفكيكية في أمور :

  1. الوصول إلى نتائج مناقضة لما هو سائد .

  2. النزوع نحو استخدام مفهومات ومقولات إجرائية غير محسومة ,

أو مالايمكن حسمه وتحديده .

  1. التفكيكُ قراءة مؤقته في انتظارِ قراءة قادمة , أو عودٍ لانهائي

من القراءات القادمة . 9

يبقى القولُ أنَّ ثمَّة قراءت عربية تأثرت بالمنهج التفكيكي وطبقته , بل غالت في تطبيقِهِ حتى بلغ بها هذا الغلو إلى التطبيقِ على النصوص المقدسة , كنصر حامد أبو زيد الذي تعالى على النص القرآني , وراحَ يقرؤه قراءة جديدة منقطعة عن كل ماهو موروث , اتباعاً للمنهج التفكيكي , والمناهج الألسنية التي توافقت معه في مبدأ أن لكل قارئ الحقُّ في إماتة المؤلف , وإعادة كتابة النص من جديد , خلوا من أي موروث قرائي سابق ..!!

ونجدُ كذلك عبد الكبير الخطيبي الذي ألف كتاب ( المغرب أفقاً للفكر ) داعياً فيه إلى التخلي عن الاستسلام للنظرة السائدة عن أنفسنا وعن الآخرين , وخلخلة نظام المعرفة السائد من حيث أتى ..!!

أما د. عبد الله الغذامي فراحُ يطبِّقُ في كتابه ( تشريح النص ) المنهج التفكيكي بنوعٍ من الحذر , فرأى أن النص إشارة حرة حررها المبدع ليطلقها صوب المتلقي ,لاليقيدها بقراءة معجمية موروثة , وإنما يتفاعل معها بفتح أبواب خياله لها لتحدث في نفسه أثرها الجمالي .

لم تلاقِ التفكيكة قبولاً في النقد الغربي , وسرعان ماانطفأت شعلتها , وكذا في النقد العربي الذي جوبهت فيه بالرفض والتقريع كما في كتابات د. عبد العزيز حمودة , لما فيها من تعدٍّ على المفاهيم والموروثات , ولما فيها من سلبٍ لحقِّ المؤلف في مدلوله الذي تتلاعبُ التفكيكية به , بتوسيع دائرة كتابته من جديد في لانهائية مطردة من القراءة والتفسير .



هوامش :

1 النقد الأدبي الحديث بداياته وتطوراته : أ.د . حلمي محمد القاعود : ص279

2 ينظر المرايا المحدبة : د. عبد العزيز حمودة : ص326

3 الكتابة والاختلاف : جاك دريدا , ترجمة : كاظم جهاد , ص 144

4 البنيوية والتفكيكية مداخل نقدية : مجموعة من الكتاب , ترجمة : حسام نايل : ص153

5 التّفكيكيّة والنّقد العربيّ الحديث ,د. غسان السيّد , مجلة الموقف الأدبي , العدد 426 ,تشرين الأول , 2006 م .

6البنيوية والتفكيكية مداخل نقدية : مجموعة من الكتاب , ترجمة : حسام نايل : ص197

7 بتصرف التّفكيكيّة والنّقد العربيّ الحديث ,د. غسان السيّد , مجلة الموقف الأدبي , العدد 426 ,تشرين الأول , 2006 م .

8 البنيوية والتفكيكية مداخل نقدية : مجموعة من الكتاب , ترجمة : حسام نايل :ص134

9 التّفكيكيّة والنّقد العربيّ الحديث ,د. غسان السيّد , مجلة الموقف الأدبي , العدد 426 ,تشرين الأول , 2006 م .



المصادر والمراجع

  • البنيوية والتفكيك مداخل نقدية : مجموعة من الكتاب , ترجمة : حسام نايل , أزمنة للنشر والتوزيع , عمان , الأردن , ط1 , 2007م.

  • تشريح النص , مقاربات تشريحية لنصوص شعرية معاصرة : د. عبد الله الغذامي , دار الطليعة , بيروت , ط1 , 1987م.

  • الكتابة والاختلاف : جالك دريدا , ترجمة : كاظم جهاد , دار توبقال للنشر , الدار البيضاء , المغرب , دط , دت .

  • المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك : د. عبد العزيز حمودة , عالم المعرفة , الكويت , 1998م .

الدوريات :

  • مجلة الموقف الأدبي - اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 426 تشرين الأول 2006.






ليست هناك تعليقات: