13‏/06‏/2008

مذهب الصرفة





*__ مقدمة __*


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على نبي الرحمة المهداة .. وبعد ...


فهذه ورقاتٌ يسيرة عن مذهب الصرفة .. حاولتْ الكشف عن معنى الصرفة التي ذهب إليه بعض العلماء الأوائل في البحث عن وجوه إعجاز القرآن , مع التعريف بأبرز من ذهب إلى القول بالصرفة , وتفنيد هذا القول بالأدلة .

باستعانة مرجوة من منزل معجزة القرآن , وهادي البشرية بإذنه إلى طريق الرشاد , ثم بتأمل ومراجعة وبحث في بعض الكتب التي تناولت هذا المذهب .

وقد بُذل الجهد – قدر الإمكان – على عدم التنقص من أصحاب مذهب الصرفة , إن صح إطلاق اسم مذهب بدءً عليه , احتفاظاً بما لهم من مكانة علمية , وحق في الاجتهاد , والحكم لله خالق الخلق , والمطلع على مصائر العباد أجمعين .

سائلين المولى أن يغفر لنا ولهم , ويرينا والمسلمين الحق حقاً ويرزقنا اتباعه , والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .

....

...

..

..

.

.

.

*__في معنى الصرفة __*


أصلُ الصرفةِ من الفعلِ صرفَ , والصرفُ لغة هو ردُّ الشيءِ عن وجهِهِ 1.


ويعني بها أصحابُها :

" أنَّ الله صرف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتِهم عليها , فكانَ هذا الصرفُ خارِقاً للعادةِ"2 .

وهناكَ معنىً آخرَ للصرفةِ عند بعض أصحابها , و هو :

" أن الله سلبهم العلوم التي يحتاجُ إليها في المعارضة ليجيئوا بمثل القرآن "3.


وقد انتشر مذهبُ الصرفةِ في بيئةِ المعتزلة , كما يقرر كثيرٌ من الباحثين , ووجهُ احتجاجِهم للصرفةِ , " أنهُ إذا جازَ عقلاً عدمُ تعذرِ المعارضةِ , ثم عجز بلغاءُ العربِ – فضلاً عن من دونهم – عن معارضتِهِم وانقطعوا دونه , فذلك برهانٌ على المعجزة " .4

ويرى الإمام محمد أبو زهرة , أن القائلين بالصرفةِ تأثروا في ذلك بأقوال البراهمةِ " في كتابهم " الفيدا " وهو الذي يشتمل على مجموعة من الأشعارِ ليسَ في كلامِ الناسِ مايماثلها في زعمهم , ويقول جمهور علمائهم أن البشر يعجزون عن أن يأتوا بمثلها , لأن براهما صرفهم عن أن يأتوا بمثلها ".5

وينقض د. أبو موسى هذا الرأي , محتجاً بأن البراهمة لم يقولوا مثل أشعار الفيدا احتراماً لها , وليس بمقتضى التكوين , ثم إن كلام البراهمة في الفيدا كان محل سخرية العقل الإسلامي , فلا مستنصر لهذا الرأي , 6 وكل هذا لاينكر وجود التأثر , فالتأثر برأي لايوجب نقلهُ كاملاً , كما أن السخرية بالبراهما , قد تؤدي إلى تنزيل الصرف على القرآن , وإن كان من وجه مختلف لأنه الكتابُ المُعْجِزُ حقَّاً .


*__القائلونَ بِهَا __*


  1. يرى كثيرٌ من المؤرخين لهذه الدعوى , أنها بدأت بالظهورِ والجلاءِ في بيئة المعتزلة , على يدِ أبي إسحاقَ إبراهيم بن سيَّار النظام ( ت 224هـ) , والذي يوصَفُ بأنهُ صاحِبُ نباهة وبيان , وسرعة في الجواب , وفصاحةٍ ولسنٍ في القول , يقول عنه تلميذهُ الجاحظ ( ت 255هـ) :7 " وَإنما كان عيبُهُ الذي لا يفارقه سوءَ ظنِّهِ وجَودة َ قياسِهِ عَلَى العارض والخاطر ... كان يظنُّ ثمَّ يقيس عليه وينسى أنَّ بدءَ أمرِه كان ظَنّاً فإذا أتقنَ ذلك وأيقنَ جَزَم عليهِ " .


  1. وقد فنَّد الجاحظُ دعوى أستاذه , في كتابٍ مفقودٍ سماهُ ( الاحتجاج لنظم القرآن ) , قال في مقدمتهِ : 8" فلم أدع فيه مسألةً لرافضي , ولا لحديثي , ولالحشوي , ولالكافر مباد , ولالمنافق مقموع , ولالأصحاب النظام , ولمن نجم بعد النظام ممن يزعم أن القرآن حق , وليس تأليفه بحجة , وأنه تنزيل , وليس ببرهان ولادلالة ". وقد رجح الرافعي في كتابهِ ( إعجاز القرآن ) أن الجاحظ تابع طائفته المعتزلة في القول بالصرفة , وإن كان له رأيٌ في أن القرآن في الدرجة العليا من الفصاحة , حيث يقول عنه : 9" لم يسلم ... من القول بالصرفة , وإن كان قد أخفاها وأومأ إليها من عُرض " , مستدلاً للجاحظ بقوله في كتاب الحيوان :10" ومثل ذلك ما رفع من أوهام العَرب وصرف نفوسهم عن المعارَضَة ِ للقرآن بَعْدَ أنْ تحدَّاهم الرَّسولُ بنظْمه ". وقد نفى د. أبو موسى عن الجاحظ هذا الانتساب لمذهب الصرفة بتفريقه بين مراد الجاحظ , ومراد شيخه ومن تبعه في القول بالصرفة حيث يقول :11" والصرفُ هنا مباينٌ للصرفة التي ذكرها النظام, وأنكرها الجاحظ ... فلولا الصرف عند النظام لجاءوا بمثله , أمَّا صرفةُ الجاحظ هذه فلولاها لطمعوا فيه " 12, بمعنى أنهم لولا هذه الصرفة لما استطاعوا حتى الإتيان بمثله , وإنما أغلقَ بهذا الباب على ذوي الشُبَهِ , والأعرابِ ممن لاحاجز له من تمكنٍ بالدين , أو من النساء اللاتي لاتدبر لهن .

  1. مُفَكِّرٌ آخرَ رأى بالصرفة في تفسير إعجاز القرآن , وهُو الشريف المُرتضى (ت 463هـ) من الشيعة المتهم بوضع كتاب ( نهج البلاغة ) المنسوب للإمام علي – رضي الله عنه - , وقد كانَ لهُ تَوَجُّهٌ آخرَ في تفسيرِ الصرفةِ حيثُ فسَّرَها بأنَّ " اللهَ تعالى سلبهُمُ العلومَ التي يُحتاجُ إليها في مُعارضَةِ القرآنِ والإتيانِ بمثلِهِ".13

  1. تابع ابنُ سنان الخفاجي ( ت466هـ) الشريف المرتضى في تفسيرِه للصرفةِ حيث قال :14 " وإذا عدنا إلى التحقيق وجدنا وجه إعجاز القرآن صرف العرب عن معارضته بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك " .

  1. وممن قال بها أيضاً الفقية أبي حزم الأندلسي الظاهري , الذي رأى أن القرآنَ ليس مُعْجِزاً في ذاتِهِ , بل لِأنَّ اللهَ صرفَ العربَ عن الإتيانِ بمثلِهِ , حيثُ يقول بعد إيرادهِ عدةَ آياتٍ من كتابِ الله عزوجل :15" فكان هذا كله إذ قاله غير الله عز وجل غير معجز بلا خلاف إذ لم يقل أحد من أهل الإسلام أن كلام غير الله تعالى معجز لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلاما له أصاره معجزا ومنع من مماثلته وهذا برهان كافٍ لا يحتاجُ إلى غيره " .



*__ردُّ شُبهةِ القولِ بالصَّرْفَةِ __*


كانَ لِظهورِ هذه الشبهة حولَ إعجازِ القرآنِ أثرٌ كبيرٌ في ثراءِ مكتبةِ الإعجاز البلاغي في القرآن , حيث تصدى لهذه الشبهة عددٌ كبيرٌ من العلماءِ بالردِّ والتفنيد , وإثباتِ وجوهٍ متعددةٍ لإعجازِ القرآنِ في ذاتِهِ , وليسَ بسببِ الصرفِ والمنعِ ؛ لأنَّ التسليمَ بِهذا القولَ يُفضي إلى نقضِ إجماعِ الأمةِ على إضافةِ الإعجازِ للقرآنِ كما قالَ الإمامُ الزركشيُّ :16 " فكيف يكون معجزا غيره وليس فيه صفة إعجاز بل المعجز هو الله تعالى حيث سلبهم قدرتهم عن الإتيان بمثله , وأيضا يلزم من القول بالصرفة فساد آخر وهو زوال الإعجاز بزوال زمان التحدي وخلو القرآن من الإعجاز وفي ذلك خرق لإجماع الأمة فإنهم أجمعوا على بقاء معجزة الرسول العظمى ولا معجزة له باقية سوى القرآن وخلوه من الإعجاز يبطل كونه معجزة ".

هذا ويمكنُ تفنيدُ القولِ بالصرفةِ بأدلةٍ عديدةٍ منها :

  1. تحدي اللهِ لهُم في آياتٍ عديدةٍ من كتابهِ المعجز من ذلك قوله سبحانه وتعالى :{ قل لئن اجتمعت الإنسُ والجِنُّ على أنْ يأتُوا بِمِثلِ هذا القرآن ِ لايأتُونَ بِمِثْلِهِ ولو كانَ بعضُهُم لِبَعْضٍ ظَهِيْراً }[ الإسراء :88] ." فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ولو سلبوا القدرة لم يبقَ لهم فائدة , لاجتماعهم لمنزلته منزلة اجتماعِ الموتى , وليسَ عجزُ الموتى مما يحتفلُ بِذِكْرِه ".17

وفي الآيةِ وجه آخرَ ذكرهُ الخطابي مفادهُ أن الأمر في الآية يتطلب الاجتهادَ والتكلف , وسبيله الاحتشادُ والتأهب , والصرفةُ تخالف هذا المعنى , فدل على أن المراد غيرها !!.18

أما الشيخ عبدالقاهر الجرجاني فيرد على أهل الصرفة من الآية بأن من لم يستطع هذا النظم في الذي مضى , ولن يستطيعه في الذي هو آت, وأنه لايقال لمن كان يستطيعه فيما مضى ثم صار لايستطيعه , والقولُ بذلك خروج بالكلام عن معانيه , وإنما يقال فيمن كان يقدر على الشيء ثم عاد لايقدر عليه... , وبهذا يتبين بطلان القول بالصرفة على هذا الوجه ".19

  1. وصف الله تعالى القرآن" بأوصافٍ ذاتية تجعله في منزلة لاتصل إليها المعجزات الأخرى , وبين أن وجود القرآن بينهم يتلى عليهم كافياً ومغنياً عن كل معجزة مادية أخرى :{ وقالوا لولا أُنْزِلَ عليهِ آياتٌ من ربِّهِ قل إنما الآياتُ عند الله وإنما أنا نذيرٌ مبين * أولَم يكفِهِم أنَّا أنزلنا عليكَ الكتابَ يُتلى عليهم إن في ذلكَ لرحمةً وذكرى لقومٍ يؤمنُونَ }.[ العنكبوت :50-51]

... فالقولُ بالصرفةِ يسلبُ هذهِ الصفاتِ الذاتيةِ عنِ القرآنِ الكريمِ ويجعلَ الإعجاز في المنع الذي حال بينهم وبين الإتيان بمثله ".20

  1. أن محاولة العرب معارضة القرآن , تنفي القول إن الله صرفهم بصرف الدواعي عن الاهتمام بالمعارضة , ولجوؤهم إلى الضرب والطعن ومحاولة التخلص من النبي –صلى الله عليه وسلم – ومن معجزته ؛ تؤكد عِظمَ المُعجِزة ووضوح العَجْزِ بعدَ طولِ المحاولة , حتى عجزوا عن المعارضة ولو بأقصر سورة 21, كما أن ماذهب إليه أهل الصرفة من أن الصرف خاصٌّ بزمن التحدي , ومحاولة مسيلمة وغيره المعارضة , ثم فشلهم في ذلك , ينفي كون الإعجاز بالصرفة , فالنظام من كبار الفصحاء , ومااستطاع المعارضة , والمتنبي شاغل الناس عجز عن تأليفٍ عربي يضاهي القرآن في رفعة أسلوبه ونظمه .

  1. في الرد على قول المرتضى , ومتابِعِهِ ابن سنان , من أن الله سلب من العرب العلوم التي يحتاجونها في معارضة القرآن , فإن المتأمل لأساليب العرب قبل البعثة وبعدها لم يجد تفاوتاً في أساليبهم , ولو كانت علومهم سلبت فلمَ لم يلجأوا إلى كلام قدمائهم , ولمَ لم يشيعوا أن علومهم سُلِبَتْ مِنْهُم , ثم إنهم لم يدعوا أن علومهم سلبت بطريق السحر كما افتروا إن تأثير القرآن على الأنفس كان بسبب السحر .!!؟22

  1. كانَ القرآن معجزاً بذاتِهِ , من وجوهٍ متعددة لاتحصى ,لأنه نزل من عندِ علاَّمِ الغيوب , خالقِ العرب , وصانع لغاتهم , ومبدع تكوينهم , ويكفي للتدليل على أنه لايضاهيه كلام العرب , الاقتباسُ منه في أي خطبة , فإنه يبرز بإشعاعه الإلهي حتى لو لم يميز بأقواس , أو يرتل في خطاب شفهي , ولو سعى شخصٌ لإزالة حرفٍ أو إدخالِ آخر لزالَ الإشعاعُ الإلهي , ولم يعد إلا بعودة النصية للآية والسورة المتلوة .

  1. اجتهدَ أولئكَ في البحث عن سرِ إعجازِ القرآن , لعظمته وإبهارهِ لأسيادِ الفصاحة , ربما أخطأوا , لكن وحده الربُّ –سبحانه – من يحاسب , فيغفر أو يعاقب .

  1. والله نسأل التوفيق للحق , والتجنيب من الشُّبَهِ والظلال .


# هوامش :

1 لسان العرب : مادة ( صرف ).

2 مباحث في علوم القرآن : مناع القطان ص261

3 السابق : الصفحة نفسها .

4 الإعجاز البياني للقرآن : د. عائشة عبد الرحمن : ص72

5 المعجزة الكبرى القرآن : الأمام محمد أبو زهرة ص76

6 الإعجاز البياني : د. محمد أبو موسى ص358

7 الحيوان 2/229 , 230

8 نقلاً عن الإعجاز البياني : ص360

9 تاريخ آداب العرب : 2/97

10 الحيوان :4/89

11 الإعجاز البلاغي : ص363

13 المعجزة الكبرى القرآن : ص79

14 سر الفصاحة : ص100

15 الفصل في الملل 3/12

16 البرهان في علوم القرآن 2/94

17 الإتقان في علوم القرآن : 2/ 314

18 ينظر :نقلاً عن الإعجاز البياني : ص366

19 الإعجاز البياني : ص389

20 مباحث في إعجاز القرآن : د. مصطفى مسلم ص66

21 ينظر مباحث في إعجاز القرآن : ص76, 77

22 ينظر السابق : ص68



*__ثبتُ المَصَادِرِ والمَرَاجِعِ __*


  1. الإتقان في علوم القرآن، تأليف: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، دار النشر: دار الفكر - لبنان - 1416هـ- 1996م، الطبعة: الأولى، تحقيق: سعيد المندوب .

  2. الإعجاز البياني , تأليف : د. محمد أبو موسى , دار النشر : مكتبة وهبة , مصر , 1418هـ-1997م , الطبعة : الثانية .

  3. الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن رزق , تأليف : د. عائشة بنت عبدالرحمن _ بنت الشاطئ _ , دار النشر : مكتبة المعارف , مصر , دت , الطبعة : الثانية .

  4. البرهان في علوم القرآن، تأليف: محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي أبو عبد الله، دار النشر: دار المعرفة - بيروت – 1391م، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم.

  5. تاريخ آداب العرب , تأليف : مصطفى صادق الرافعي , دار النشر : دار الكتاب العربي , بيروت – لبنان , 1424هـ - 1996م , الطبعة : الأولى .

  6. الحيوان، تأليف: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، دار النشر: دار الجيل - لبنان/ بيروت - 1416هـ - 1996م، تحقيق: عبد السلام محمد هارون.

  7. سر الفصاحة، تأليف: الأمير أبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي، دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - 1402هـ 1982م، الطبعة: الأولى.

  8. الفصل في الملل والأهواء والنحل، تأليف: علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الطاهري أبو محمد، دار النشر: مكتبة الخانجي – القاهرة , دط , دت .

  9. لسان العرب، تأليف: محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري، دار النشر: دار صادر - بيروت، الطبعة: الأولى.

  10. مباحث في إعجاز القرآن , تأليف : د.مصطفى مسلم, دار النشر : دار مسلم – الرياض , 1416هـ - 1996م , الطبعة : الثانية .

  11. مباحث في علوم القرآن , تأليف : الشيخ مناع القطان , دار النشر : مؤسسة الرسالة , 1416هـ - 1996م – الطبعة : التاسعة والعشرون .

  12. المعجزة الكبرى في القرآن : تأليف : الإمام محمد أبو زهرة , دار النشر : دار الفكر العربي ,دط, دت .












هناك تعليق واحد:

Mohammed Al Barakati يقول...

أجري بحثآ عن ترجمات القرءان ولفت نظري هذا القول في الحقيقة فأردت الإستزادة ووجدت أكثر مما كنت أرغب..

مقاله مقتضبة مفيدة بارك الله فيك أيتها الشريفة..